فصل: تفسير الآيات (6- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (6- 14):

قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإنسان ليطغى (6) أَنْ رَآهُ استغنى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرجعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي ينهى (9) عَبْدًا إِذَا صلى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الهدى (11) أَوْ أَمَرَ بالتقوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وتولى (13) أَلَمْ يعلم بِأَنَّ اللَّهَ يرى (14)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الدم أكثر الأخلاط وأشدها هيجاناً، فإن مرضه لا يشبهه شيء من أمراض بقية الأخلاط، وكان مع ذلك سريع البرء إن أصيب علاجه وعولج بأمر قاهر أقوى منه، وكان العلم قرين الغنى في الأغلب، وكان زلة العالم تفوق زلة غيره، قال معرفاً بعد التعريف بالإلهيات بأمر النفس مبيناً لقسم الإنسان المردود أسفل سافلين مقرراً لحاله، ورادعاً له عن ضلاله: {كلا} أي ارتدع أيها العالم عن الطغيان إن نلت الغنى حقاً {إن الإنسان} أي هذا النوع الذي هو نوعك ومن شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه {ليطغى} أي من شأنه- إلا من عصمه الله سبحانه- أن يزيد على الحد الذي لا ينبغي له مجاوزته كما يزيد الخلط الدموي، وأكده لما لأكثر الخلق من التكذيب به فإنه لا طاغي يقر بأنه طغى {أن} أي لأجل أن {رآه} أي علم الإنسان نفسه علماً وجدانياً {استغنى} أي وجد له الغنى، هذا هو الطبع الغالب في الإنسان متى استغنى عن شيء عمي عن مواضع افتقاره، فتغيرت أحواله معه، وتجاوز فيه ما ينبغي له الوقوف عنده «ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» ومن كان مفتقرا إلى شيء كان منطاعاً له كما في حديث آخر أهل النار خروجاً منها يقسم لربه أنه لا يسأل غير ما طلبه، فإذا أعطيته واستغنى به سأل غيره حتى يدخل دار القرار، ولعله نبه بهذا على أن هذه الأمة المحتاجة ستفتح لها خزائن الأرض فيطغيها الغنى كما أطغى من قبلها وإن كانوا هم ينكرون ذلك كما قال- صلى الله عليه وسلم حين بشرهم بالفتوحات وقال: «إنه يغدى على أحدكم بصفحة ويراح عليه بأخرى ثم قال لهم: أنتم اليوم خير أم يومئذ، فقالوا: بل يومئذ، نتفرغ لعبادة ربنا، فقال: بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ، قال صلى الله عليه وسلم: والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن يبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ولما كان لا دواء لذلك مثل تذكر الجزاء، قال معرفاً أن الإنسان لا يزال مفتقرا إلى مولاه في حياته ومماته وغناه وفقره، محذراً له سوء حالاته مؤكداً لأجل إنكارهم ذلك: {إن إلى ربك} أي المحسن إليك بالرسالة التي رفع بها ذكرك، لا إلى غيره من التراب ونحوه {الرجعى} أي الرجوع الأعظم الثابت الذي لا محيد عنه، أما في الدنيا فلا محيد عن الإقرار به، فإنه لا يقدر أحد على شيء إلا بتقديره، وأما في الآخرة فبما أثبت في برهانه في سورة التين، فيحاسب الناس بأعمالهم، ويجازي كل أحد بما يستحق من ثواب أو عقاب، ففيه وعيد للطاغي وتحقير- لغنى ينقطع.
ولما أخبر بطغيانه وعجل بذكر دوائه لأن المبادرة بالدواء لئلا يتحكم الداء واجبة، دل على طغيانه مخوفاً من عواقب الرجعى في أسلوب التقرير لأنه أوقع في النفس وأروع للّب لأن أبا جهل قال: لئن رأيت محمداً يعفر وجهه لأفضخن رأسه بصخرة، فجاء ليفعل ما زعم فنكص على عقبيه ويبست يداه على حجره فسئل عما دهاه، فقال: إن بيني وبينه لهولاً وأجنحة، وفي رواية: لخندقاً من النار، وفي رواية: لفحلاً من الإبل، فما رأيت مثله، ولو دنوت منه لأكلني. وأصل الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة- رضى الله عنه ـ، فقال: {أرءيت} تقدم في الأنعام أن هذا الفعل إذا لم يكن بصرياً كان بمعنى أخبر، فالمعنى: أخبرني هل علمت بقلبك علماً هو في الجلاء كرؤية بصرك {الذي ينهى} أي على سبيل التجديد والاستمرار.
ولما كان أفحش ما يكون صد العبد عن خدمة سيده، قال معبراً بالعبودية منكراً للمبالغة في تقبيح النهي والدلالة على كمال العبودية: {عبداً} أي من العبيد {إذا صلى} أي خدم سيده الذي لا يقدر أحد أن ينكر سيادته بإيقاع الصلاة التي هي وصلته به، وهي أعظم أنواع العبادة لأنها مع كونها أقرب وصلة إلى الحق انقطاع وتجرد بالكلية عن الخلق، فكان نهيه له عن ذلك نهياً عن أداء الحق لأهله حسداً أو بغياً، فكان دالاًّ على أن من طبع أهل كل زمان عداوة أهل الفضل وصدهم عن الخير لئلا يختصوا بالكمال.
ولما كان هذا أمراً خارجاً عن الحد في الطغيان، وكان السؤال إنما هو عن رؤية حاله في نهيه العبد عن الصلاة، لا عن رؤية ذاته، فتشوف السامع إلى معرفة ذلك الحال، كرر التقرير بزيادة التعجيب من حاله والتحذير، فقال مكرراً العامل زيادة في التأكيد وبياناً لأن هذا في الحقيقة أول السؤال عن الحال: {أرءيت} أي أخبرني عن حاله {إن كان} أي هذا الناهي، وعبر بأداة الاستعلاء إشارة إلى أنه في غاية الثبات والتمكن فقال: {على الهدى} أي الكامل في الهداية فكف عن نهي هذا المصلي عن خدمة مولاه الذي هو معترف بسيادته وإن ادعى كذباً أن له شريكاً كما أنه لا ينهى عن السجود للأصنام.
ولما ذكر ما لعله يكون عليه في تكميل نفسه، ذكر ما لعله يعانيه من إنجاء غيره فقال: {أو أمر} أي ذلك الناهي {بالتقوى} أي التي هي عماد الدين، وهي عمارة الباطن بالنور الناشئة عن الهدى، وعمارة الظاهرة لذلك، المترشحة من عمارة الباطن، الموجب لذلك، فأمر هذا المصلي بملازمة خدمة سيده المجمع على سيادته، ولا شك في توحيده بالربوبية بالإقبال على ما يرضيه من أفعال العبادة، ليكون ذلك وقاية لفاعل من سخطه فيأمن الهلاك، والجواب محذوف تقديره: ألم يكن خيراً له فليتدبر كل أمر من أموره فلا يقدم عليه حتى يعلم بالدليل أنه هدى وتقوى.
ولما كان التقدير حتماً كما هدى إليه السياق ما قدرته من جواب السؤالين، بنى عليه قوله زيادة في التوبيخ والتعجيب والتقريع استفهاماً عن حال لهذا الناهي مناف للحال الأول معيداً الفعل إيضاحاً لذلك: {أرءيت} أي أخبرني أيها السامع ولا تستعجل {إن كذب} أي أوقع هذا الناهي التكذيب بأن المصلي على الهدى بخدمة سيده المتفق على سيادته، فكان بذلك مرتكباً للضلال الذي لا شك في كونه ضلالاً، ولا يدعو إليه إلا الهدى.
ولما كان المكذب قد لا يترك من كذبه، أشار إلى أن حال هذا على غير ذلك فقال: {وتولى} أي وكلف فطرته الأولى بعد معالجتها الإعراض عن قبول الأمر بالتقوى، وذلك التولي إخراب الباطن بالأخلاق السيئة الناشئة عن التكذيب وإخراب الظاهر بالأعمال القبيحة الناشئة عن التكذيب، والجواب محذوف تقديره: ألم يكن ذلك التولي والتكذيب شراً له لأن التكذيب والتولي من غير دليل شر محض، فكيف إذا كان الدليل قائماً على ضدهما.
ولما عجب من حالته البعيدة عن العقل مع نفسه ومع أبناء جنسه، أنكر عليه معجباً من كونه يعلم أنه ليس بيده شيء، المنتج لأنه مراقب وحاله مضبوط غاية الضبط وينسى ذلك، فقال ذاكراً مفعول {أرءيت} الثاني وهو لا يكون إلا جملة استفهامية: {ألم يعلم} أي يقع له عمل يوماً من الأيام {بأن الله} أي وهو الملك الأعلى {يرى} أي له صفتا البصر والعلم على الإطلاق، فهو يعلم كل معلوم ويبصر كل مبصر، ومن كان له ذلك كان جديراً بأن يهلك من يراه على الضلال والإضلال وينصر من يطيع أمره على كل من يعاديه، وإنما جاء هذا الاستفهام الإنكاري على هذا الوجه لأنهم يعترفون بكل ما أنكر عليهم فيه ويلزمهم بما يفعلون من عداوة النبي- صلى الله عليه وسلم أن يكونوا منكرين له، وذلك هو عين التناقض الذي لا أشنع عندهم منه، هذا ويمكن، وهو أحسن، أن تنزل الآية على الاحتباك فيقال: لما كان السؤال عن حال الناهي لأن الرؤية علميه لا بصرية، فتشوف السامع إلى معرفتها، وكان للناهي حالان: طاعة ومعصية، بدأ بالأولى لشرفها على الأسلوب الماضي في التقرير على سبيل التعجيب فقال: {أرءيت} أي أخبرني {إن كان} الناهي ثابتاً في نهيه هذا متمكناً {على الهدى} أي الكامل {أو} كان قد {أمر} في ذلك الأمر أو في أمر ما من عبادة الأوثان وغيرها {بالتقوى} وحذف جواب السؤال عن هذا الحال لدلالة جواب الحال الثاني عليه، وهو {ألم يعلم بأن الله يرى} كل ما يصح أن يرى، فينهى عنه إن كان مكروهاً ولا يقر عليه ويحاسب به ليزن هذا الناهي أفعاله بما شرعه سبحانه من الدليل العقلي والسمعي فيعلم أهي مما يرضيه ليقره عليه كما يقر سائر ما يرضيه أو يسخطه فيمنعه منه.
ولما ذكر ما يمكن أن يكون عليه حال الناهي من السداد، ذكر ما يمكن أن يكون عليه من الفساد، فقال مقرراً معجباً معيداً العامل لزيادة التعجيب على النمط الأول: {أرأيت إن كذب} أي هذا الناهي بالحق في وقت النهي- ولما كان لا يلزم من التكذيب التولي قال: {وتولى} أي عن الدين بنهيه هذا، فكان على الضلال والهوى متمكناً في ذلك بحيث إنه لا يصدر عنه فعل إلا فاسداً {ألم يعلم بأن الله يرى} فيحاسب نفسه بما أرشد إليه سبحانه من البراهين فيعلم أن ما هو عليه من الرشد إن كان الله يقره عليه ويمكنه منه أو الغواية إن كان ينهاه عنه ولا يقره عليه، كما فعل بهذا الذي أقسم: ليرضخن رأس هذا المصلي، وأقدم عليه بصخرته وهو عند نفسه في غاية القدرة على ذلك بزعمه فمنعه الله منه ورده عنه فرجع على عقبيه خاسئاً ظاهراً عليه الجبن والرعب وغيرهما مما يتحاماه الرجال، ويأنف منه الضراغمة الأبطال، والاحتباك هنا بطلب {أرءيت} جملة ليس هو من التنازع لأنه يستدعي إضماراً والجمل لا تضمر، إنما هو من باب الحذف لدليل، فحذف الكون على الضلال ثانياً لدلالة الكون على الهدى عليه أولاً، وحذف {ألم يعلم بأن الله يرى} أولاً لدلالة ذكره آخراً عليه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{كَلَّا إِنَّ الإنسان ليطغى (6)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
أكثر المفسرين على أن المراد من الإنسان هاهنا إنسان واحد وهو أبو جهل، ثم منهم من قال: نزلت السورة من هاهنا إلى آخرها في أبي جهل.
وقيل: نزلت من قوله: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً} [العلق: 9] إلى آخر السورة في أبي جهل.
قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا؟ فزجره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: والله إنك لتعلم أني أكثر أهل الوادي نادياً، فأنزل الله تعالى: {فَلْيَدْعُ ناديه سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 17، 18] قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله، فكأنه تعالى لما عرفه أنه مخلوق من علق فلا يليق به التكبر، فهو عند ذلك ازداد طغياناً وتعززاً بماله ورياسته في مكة.
ويروى أنه قال: ليس بمكة أكرم مني.
ولعله لعنه الله قال ذلك رداً لقوله: {وَرَبُّكَ الأكرم} [العلق: 3] ثم القائلون بهذا القول منهم من زعم أنه ليست هذه السورة من أوائل ما نزل.
ومنهم من قال: يحتمل أن يكون خمس آيات من أول السورة نزلت أولاً، ثم نزلت البقية بعد ذلك في شأن أبي جهل، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضم ذلك إلى أول السورة، لأن تأليف الآيات إنما كان يأمر الله تعالى، ألا ترى أن قوله تعالى: {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] آخر ما نزل عند المفسرين ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل القول.
الثاني: أن المراد من الإنسان المذكور في هذه الآية جملة الإنسان، والقول الأول وإن كان أظهر بحسب الروايات، إلا أن هذا القول أقرب بحسب الظاهر، لأنه تعالى بين أن الله سبحانه مع أنه خلقه من علقة، وأنعم عليه بالنعم التي قدمنا ذكرها، إذ أغناه، وزاد في النعمة عليه فإنه يطغى ويتجاوز الحد في المعاصي واتباع هوى النفس، وذلك وعيد وزجر عن هذه الطريقة، ثم إنه تعالى أكد هذا الزجر بقوله: {إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} [العلق: 8] أي إلى حيث لا مالك سواه، فتقع المحاسبة على ما كان منه من العمل والمؤاخذة بحسب ذلك.
المسألة الثانية:
قوله: {كَلاَّ} فيه وجوه:
أحدها: أنه ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله بطغيانه، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه.
وثانيها: قال مقاتل: كلا لا يعلم الإنسان إن الله هو الذي خلقه من العلقة وعلمه بعد الجهل، وذلك لأنه عند صيرورته غنياً يطغى ويتكبر، ويصير مستغرق القلب في حب الدنيا فلا يتفكر في هذه الأحوال ولا يتأمل فيها.
وثالثها: ذكر الجرجاني صاحب (النظم) أن كلا هاهنا بمعنى حقاً لأنه ليس قبله ولا بعده شيء تكون {كَلاَّ} رداً له، وهذا كما قالوه في:
{كَلاَّ والقمر} [المدثر: 32] فإنهم زعموا أنه بمعنى: أي والقمر.
المسألة الثالثة:
الطغيان هو التكبر والتمرد، وتحقيق الكلام في هذه الآية أن الله تعالى لما ذكر في مقدمة السورة دلائل ظاهرة على التوحيد والقدرة والحكمة بحيث يبعد من العاقل أن لا يطلع عليها ولا يقف على حقائقها.
أتبعها بما هو السبب الأصلي في الغفلة عنها وهو حب الدنيا والاشتغال بالمال والجاه والثروة والقدرة، فإنه لا سبب لعمى القلب في الحقيقة إلا ذلك.
فإن قيل: إن فرعون ادعى الربوبية، فقال الله تعالى في حقه: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 24] وههنا ذكر في أبي جهل: {ليطغى} فأكده بهذه اللام، فما السبب في هذه الزيادة؟.
قلنا: فيه وجوه:
أحدها: أنه قال لموسى: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} وذلك قبل أن يلقاه موسى، وقبل أن يعرض عليه الأدلة، وقبل أن يدعي الربوبية.
وأما هاهنا فإنه تعالى ذكر هذه الآية تسلية لرسوله حين رد عليه أقبح الرد.
وثانيها: أن فرعون مع كمال سلطته ما كان يزيد كفره على القول، وما كان ليتعرض لقتل موسى عليها السلام ولا لإيذائه.
وأما أبو جهل فهو مع قلة جاهه كان يقصد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وإيذاءه.
وثالثها: أن فرعون أحسن إلى موسى أولاً، وقال آخراً: {ءامَنتُ} [يونس: 90].
وأما أبو جهل فكان يحسد النبي في صباه، وقال في آخر رمقه: بلغوا عني محمداً أني أموت ولا أحد أبغض إلى منه ورابعها: أنهما وإن كانا رسولين لكن الحبيب في مقابلة الكليم كاليد في مقابلة العين، والعاقل يصون عينه فوق ما يصون يده، بل يصون عينه باليد، فلهذا السبب كانت المبالغة هاهنا أكثر.
{أَنْ رَآهُ استغنى (7)} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال الأخفش: لأن رآه فحذف اللام، كما يقال: أنكم لتطغون أن رأيتم غناكم.
المسألة الثانية:
قال الفراء إنما قال: {أَن رَّءاهُ} ولم يقل: رأى نفسه كما يقال: قتل نفسه لأن رأى من الأفعال التي تستدعي اسماً وخبراً نحو الظن والحسبان، والعرب تطرح النفس من هذا الجنس فنقول: رأيتني وظننتني وحسبتني فقوله: {أَن رَّءاهُ استغنى} من هذا الباب.
المسألة الثالثة:
في قوله: {استغنى} وجهان:
أحدهما: استغنى بماله عن ربه، والمراد من الآية ليس هو الأول، لأن الإنسان قد ينال الثروة فلا يزيد إلا تواضعاً كسليمان عليه السلام، فإنه كان يجالس المساكين ويقول: (مسكين جالس مسكيناً) وعبد الرحمن بن عوف ما طغى مع كثرة أمواله، بل العاقل يعلم أنه عند الغنى يكون أكثر حاجة إلى الله تعالى منه حال فقره، لأنه في حال فقره لا يتمنى إلا سلامة نفسه، وأما حال الغنى فإنه يتمنى سلامة نفسه وماله ومماليكه، وفي الآية وجه ثالث: وهو أن سين {استغنى} سين الطالب والمعنى أن الإنسان رأى أن نفسه إنما نالت الغنى لأنها طلبته وبذلت الجهد في الطلب فنالت الثروة والغنى بسبب ذلك الجهد، لا أنه نالها بإعطاء الله وتوفيقه، وهذا جهل وحمق فكم من باذل وسعه في الحرص والطلب وهو يموت جوعاً، ثم ترى أكثر الأغنياء في الآخرة يصيرون مدبرين خائفين، يريهم الله أن ذلك الغنى ما كان بفعلهم وقوتهم.
المسألة الرابعة:
أول السورة يدل على مدح العلم وآخرها على مذمة المال، وكفى بذلك مرغباً في الدين والعلم ومنفراً عن الدنيا والمال.
{إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرجعى (8)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
هذا الكلام واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان تهديداً له وتحذيراً من عاقبة الطغيان.
المسألة الثانية:
{الرجعى} المرجع والرجوع وهي بأجمعها مصادر، يقال: رجع إليه رجوعاً ومرجعاً ورجعى على وزن فعلى، وفي معنى الآية وجهان:
أحدهما: أنه يرى ثواب طاعته وعقاب تمرده وتكبره وطغيانه، ونظيره قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا} إلى قوله: {إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42] وهذه الموعظة لا تؤثر إلا في قلب من له قدم صدق، أما الجاهل فيغضب ولا يعتقد إلا الفرح العاجل والقول الثاني: أنه تعالى يرده ويرجعه إلى النقصان والفقر والموت، كما رده من النقصان إلى الكمال، حيث نقله من الجمادية إلى الحياة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الذل إلى العز، فما هذا التعزز والقوة.
المسألة الثالثة:
روي أن أبا جهل قال للرسول عليه الصلاة والسلام: أتزعم أن من استغنى طغى، فاجعل لنا جبال مكة ذهباً وفضة لعلنا نأخذ منها فنطغى، فندع دينناً ونتبع دينك، فنزل جبريل وقال: إن شئت فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم مثل ما فعلنا بأصحاب المائدة، فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم.
{أَرَأَيْتَ الَّذِي ينهى (9) عَبْدًا إِذَا صلى (10)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
روي عن أبي جهل لعنه الله أنه قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم، قال: فوالذي يحلف به لئن رأيته لأطأن عنقه، ثم إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فنكص على عقبيه، فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً شديداً.
وعن الحسن أن أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة.
واعلم أن ظاهر الآية أن المراد في هذه الآية هو الإنسان المتقدم ذكره، فلذلك قالوا: إنه ورد في أبي جهل، وذكروا ما كان منه من التوعد لمحمد عليه الصلاة والسلام حين رآه يصلي، ولا يمتنع أن يكون نزولها في أبي جهل، ثم يعم في الكل، لكن ما بعده يقتضي أنه في رجل بعينه.
المسألة الثانية:
قوله: {أَرَأَيْتَ} خطاب مع الرسول على سبيل التعجب، ووجه التعجب فيه أمور أحدها: أنه عليه السلام قال: اللهم أعز الإسلام إما بأبي جهل بن هشام أو بعمر، فكأنه تعالى قال له: كنت تظن أنه يعز به الإسلام، أمثله يعز به الإسلام، وهو: ينهى عبداً إذا صلى.
وثانيها: أنه كان يلقب بأبي الحكم، فكأنه تعالى يقول: كيف يليق به هذا اللقب وهو ينهى العبد عن خدمة ربه، أيوصف بالحكمة من يمنع عن طاعة الرحمن ويسجد للأوثان!.
وثالثها: أن ذلك الأحمق يأمر وينهى، ويعتقد أنه يجب على الغير طاعته، مع أنه ليس بخالق ولا رب، ثم إنه ينهى عن طاعة الرب والخالق، ألا يكون هذا غاية الحماقة.
المسألة الثالثة:
قال: {ينهى عَبْداً} ولم يقل: ينهاك، وفيه فوائد أحدها: أن التنكير في عبداً يدل على كونه كاملاً في العبودية، كأنه يقول: إنه عبد لا يفي العالم بشرح بيانه وصفة إخلاصه في عبوديته يروى: في هذا المعنى أن يهودياً من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيام خلافته فقال: أخبرني عن أخلاق رسولكم، فقال عمر: اطلبه من بلال فهو أعلم به مني.
ثم إن بلالاً دله على فاطمة ثم فاطمة دلته على على عليه السلام، فلما سأل علياً عنه قال: صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه، فقال الرجل: هذا لا يتيسر لي، فقال علي: عجزت عن وصف متاع الدنيا وقد شهد الله على قلته حيث قال: {قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ} [النساء: 77] فكيف أصف أخلاق النبي وقد شهد الله تعالى بأنه عظيم حيث قال: {وَإِنَّكَ لعلى خلق عَظِيمٍ} [القلم: 4] فكأنه تعالى قال: ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية وذلك عين الجهل والحمق.
وثانيها: أن هذا أبلغ في الذم لأن المعنى أن هذا دأبه وعادته فينهى كل من يرى.
وثالثها: أن هذا تخويف لكل من نهى عن الصلاة، روى عن علي عليه السلام أنه رأى في المصلى أقواماً يصلون قبل صلاة العيد، فقال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فقيل له: ألا تنهاهم؟ فقال: أخشى أن أدخل تحت قوله: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} فلم يصرح بالنهي عن الصلاة، وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حيث قال له أبو يوسف: أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع: اللهم اغفر لي؟ قال: يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي ورابعها: أيظن أبو جهل أنه لو لم يسجد محمد لي لا أجد ساجدًّا غيره، إن محمد عبد واحد، ولي من الملائكة المقربين مالا يحصيهم إلا أنا وهم دائماً في الصلاة والتسبيح وخامسها: أنه تفخيم لشأن النبي عليه السلام يقول: إنه مع التنكير معرف، نظيره الكناية في سورة القدر حملت على القرآن ولم يسبق له ذكر.
{أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] {أَنْزَلَ على عَبْدِهِ} [الكهف: 1] {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عبدُ الله} [الجن: 19].
{أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الهدى (11) أَوْ أَمَرَ بالتقوى (12)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قوله: {أَرَأَيْتَ} خطاب لمن؟ فيه وجهان:
الأول: أنه خطاب للنبي عليه السلام، والدليل عليه أن الأول وهو قوله: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً} للنبي صلى الله عليه وسلم والثالث وهو قوله: {أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى} [العلق: 13] للنبي عليه الصلاة والسلام فلو جعلنا الوسط لغير النبي لخرج الكلام عن النظم الحسن، يقول الله تعالى يا محمد: أرأيت إن كان هذا الكافر، ولم يقل: لو كان إشارة إلى المستقبل كأنه يقول: أرأيت إن صار على الهدى، واشتغل بأمر نفسه، أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة، فلو اختار الدين والهدى والأمر بالتقوى، أما كان ذلك خيراً له من الكفر بالله والنهي عن خدمته وطاعته، كأنه تعالى يقول: تلهف عليه كيف فوت على نفسه المراتب العالية وقنع بالمراتب الدنيئة.
القول.
الثاني: أنه خطاب للكافر، لأن الله تعالى كالمشاهد للظالم والمظلوم، وكالمولى الذي قام بين يديه عبدان، وكالحاكم الذي حضر عنده المدعي، والمدعى عليه فخاطب هذا مرة، وهذا مرة.
فلما قال للنبي: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} [العلق: 9] التفت بعد ذلك إلى الكافر، فقال: أرأيت يا كافر إن كانت صلاته هدى ودعاؤه إلى الله أمراً بالتقوى أتنهاه مع ذلك.
المسألة الثانية:
ههنا سؤال وهو أن المذكور في أول الآية.
هو الصلاة وهو قوله: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} والمذكور هاهنا أمران، وهو قوله: {أَرَءيْتَ إِن كَانَ على الهدى} في فعل الصلاة، فلم ضم إليه شيئاً ثانياً، وهو قوله: {أَوْ أَمَرَ بالتقوى}؟ جوابه من وجوه:
أحدها: أن الذي شق على أبي جهل من أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام هو هذان الأمران الصلاة والدعاء إلى الله، فلا جرم ذكرهما هاهنا.
وثانيها: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يوجد إلا في أحد أمرين، إما في إصلاح نفسه، وذلك بفعل الصلاة أو في إصلاح غيره، وذلك بالأمر بالتقوى.
وثالثها: أنه عليه السلام كان في صلاته على الهدى وآمراً بالتقوى، لأن كل من رآه وهو في الصلاة كان يرق قلبه.
فيميل إلى الإيمان، فكان فعل الصلاة دعوة بلسان الفعل، وهو أقوى من الدعوة بلسان القول.
{أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وتولى (13)}
وفيه قولان.
القول الأول: أنه خطاب مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك لأن الدلائل التي ذكرها في أول هذه السورة جلية ظاهرة، وكل أحد يعلم ببديهة عقله، أن منع العبد من خدمة مولاه فعل باطل وسفه ظاهر، فإذن كل من كذب بتلك الدلائل وتولى عن خدمة مولاه بل منع غيره عن خدمة مولاه يعلم بعقله السليم أنه على الباطل، وأنه لا يفعل ذلك إلا عناداً، فلهذا قال تعالى لرسوله: {أرأيت} يا محمد {إن كذب} هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة، {وتولى} عن خدمة خالقه، {ألم يعلم} بعقله {بأن الله يرى} منه هذه الأعمال القبيحة ويعلمها، أفلا يزجره ذلك عن هذه الأعمال القبيحة.
والثاني: أنه خطاب للكافر، والمعنى إن كان يا كافر محمد كاذباً أو متولياً، ألا يعلم بأن الله يرى حتى ينتهي بل احتاج إلى نهيك.
{أَلَمْ يعلم بِأَنَّ اللَّهَ يرى (14)} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
المقصود من الآية التهديد بالحشر والنشر، والمعنى أنه تعالى عالم بجميع المعلومات حكيم لا يهمل، عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فلابد وأن يوصل جزاء كل أحد إليه بتمامه فيكون هذا تخويفاً شديداً للعصاة، وترغيباً عظيماً لأهل الطاعة.
المسألة الثانية:
هذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل فكل من نهى من طاعة الله فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد، ولا يرد عليه المنع من الصلاة في الدار المغصوبة والأوقات المكروهة، لأن المنهي عنه غير الصلاة وهو المعصية، ولا يرد المولى بمنع عبده عن قيام الليل وصوم التطوع وزوجته عن الاعتكاف، لأن ذلك لاستيفاء مصلحته بإذن ربه لا بغضاً لعبادة ربه. اهـ.